وفى معبد الكرنك – أمام الصرح الثالث – يأمر الملك «توت – عنخ – آمون» بإقامة لوحته المشهورة التى تعرف الآن باسم «مرسوم الإصلاحات» ، والتى سجل عليها ما آلت إليه أحوال البلاد من بعد سنوات حكم «إخناتون» صاحب التوجهات والتطلعات الدينية الداعية إلى وحدانية المعبود ، والذى قام بإغلاق كل معابد الأرباب فى البلاد مُنكرًا وجود رب للناس سوى رب الشمس «آتون» . من أجل ذلك ، وبحسب ما جاء فى كلمات المرسوم الملكى ، فإن «توت – عنخ – آمون» يأمر بإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها ، وذلك بفتح دور العبادة وجعل الناس يتعبدون إلى أربابهم الذين كانوا لقرون طويلة قد توارثوا عبادتهم عن أجدادهم الأولين . ونفضل هنا أن نستمع إلى بعض كلمات اللوحة : «عندما ظهر (حرفيا : «تجلي» – بمعنى «تولي») جلالته كملك ، فإن معابد الأرباب والربات من إلفنتين (جزيرة أسوان) إلى مستنقعات الدلتا كانت قد صارت (مجرد) خرائب ، ومقاصيرها أصبحت مهجورة مُقفرة وتحولت إلى أطلال مغطاة (تمامًا) بالحشائش (الحلفاء) ، أما (عن) هياكلها (المقدسة) فكأنها لم تكن موجودة (يوما) ، وقد أضحت قاعاتها كمجرد دروب (دهاليز) للمشاة» . ويواصل الملك حديثه على هذه اللوحة المهمة معبرًا عن حالة الأرض المصرية المحزنة وقد انقلب كل شيء فيها رأسًا على عقب ، ذلك أن مجمع الأرباب كان قد أدار لها ظهره تمامًا ، ولم يعد – كما كان عليه الحال فى كل القرون السابقة – يُسبغ البركات والخيرات عليها وعلى أهلها . وبعد أن قام الملك الصغير باستفتاء قلبه يهتدى إلى أن أفضل طريق لاسترضاء «آمون» وكل أرباب وربات الوطن يكون بتجديد المعابد وإعادة نحت التماثيل وتقديم القرابين وتعيين الكهنة لكى يعود الوضع إلى سابق عهده قبل فترة حكم والده (إخناتون) . وهنا نعاود الاستماع إلى كلمات اللوحة من بعد أن تحقق كل ذلك بالفعل : «إن الأرباب والربات الذين هم فى هذا البلد لمنشرحى الصدر (حرفياً: مرتاحى البال والفؤاد) ، كما وأن أصحاب المقاصير (المقدسة) فى سعادة، والبلاد عمومًا أصبحت فى أجواء من الابتهاج والفرح، فالسرور يسرى فى أرجاء الوطن، ذلك أن حالة من الغبطة كانت قد طرأت». هكذا يتم الإعلان رسمياعن انتهاء تلك الدعوة والصيحة الفريدة التى أطلقها «إخناتون» وحاول جاهدًا أن يُطبقها آملا أن يقتنع الناس أنه ليس لهم سوى معبود واحد.عن الكشف المثير والمدوي:يُعد العثور على مقبرة الملك «توت- عنخ- آمون» فى عام 1922 هو أروع وأكثر الكشوف الأثرية إثارة وأهمية بالنسبة للحضارة الإنسانية فى كل زمان ومكان وإلى يومنا هذا. ويجييء هذا الكشف المدوى بعد قرن كامل من فك غموض اللغة المصرية القديمة على يد الفرنسى «شمبليون» وبداية الانطلاق الحقيقى لدراسة آثار وتاريخ وحضارة مصر القديمة فى عام 1822. وترجع أهمية الكشف عن هذه المقبرة أنها الوحيدة التى عثر عليها فى صورة شبه متكاملة مقارنة بجميع مقابر الملوك الفراعنة فى الدولة الحديثة التى نقرت على مدى أربعة قرون فى وادى الملوك وقد نهبت بالكامل فى الأزمنة القديمة . وبالرغم من ذلك، فمن المعروف والمؤكد أن اللصوص كانوا قد دخلوا مقبرة الملك الصغير ولمرتين وسرقوا منها كل ما كان خفيفا وثمينا مثل الحلى والزيوت العطرية، حتى أنه يُقدر أن حوالى نصف الحلى التى أودعت مع الملك قد سرقت. ونظرًا ليقظة المشرف العام على الجبانة الملكية آنذاك، «مايا»، والذى عمل رئيسا للخزانة الملكية وكان من المقربين لدى الملك «توت- عنخ- آمون»، فإن الأمر قد تم تداركه سريعا وذلك بإعادة غلق المقبرة ووضع أختام الجبانة الملكية على مداخلها المخترقة فى كل مرة. ويشاء القدر أن سيلا عارما يهطل على الوادى ويجرف معه كميات كبيرة من الرمال والزلط التى تغطى مدخل المقبرة بالكامل وتبعدها عن أعين الناس. وبعد حوالى 180 عامًا يقوم رجال الفرعون «رمسيس السادس» بحفر قبر له فوق مقبرة «توت- عنخ- آمون» مباشرة، بل ويقيمون أكواخ العمال فوق مكان مدخل مقبرة الملك الصغير مباشرة، حيث أن طبقة الرديم فوقه قد وصلت آنذاك إلى حوالى المتر تقريبًا، كما أنهم قد أهالوا رمال الحفر للمقبرة الجديدة لكى تغطى بالكامل كل ما يمكن أن يشير إلى مقبرة أخرى فى هذا المكان. ومن المفارقات العجيبة أن الإنجليزى «هوارد كارتر»، الذى بدأ فى عام 1917 بحثه الجاد (بتمويل من الثرى الإنجليزى اللورد «كارنرفون») عن مقبرة الملك الصغير فى وادى الملوك، كان قد بدأ الحفر فى ذات البقعة أسفل مقبرة الفرعون «رمسيس السادس» (رقم9)، إلا أن عماله كشفوا عن بقايا أكواخ بسيطة ترجع إلى الأسرة العشرين. عندها يتوقف العمل فى هذا المكان نظرًا لأن استمراره كان يعنى غلق المنفذ الوحيد الذى عن طريقه يمكن للسياح الوصول إلى المقبرة الملكية (رقم9) التى كانت ولا تزال تحوز إعجاب زائريها. ويعود «هوارد كارتر» بعد خمس سنوات من العمل الشاق بدون نتيجة إلى ذات المكان الذى لم يكتمل حفرًا فى عام 1917، وذلك لكى يقنع نفسه أنه بحث فى كل مكان عن المقبرة المفقودة. وفى يوم 4 نوفمبر 1922 ينتهى العمال المصريون بقيادة «كارتر» من إخلاء قطاع من الرديم أسفل مقبرة الملك «رمسيس السادس»، وكذلك إزاحة ما تبقى من أكواخ العمال فى عهد هذا الملك، وبعد ظهور الأرض الطبيعية للوادى يلاحظ أحد العمال ما يشبه بداية لدرجة سلم قد نحتت فى الصخر وتنحدر إلى أسفل . بعد ذلك تتابعت الدرجات التى أوصلت إلى جدار مغلق بالحجارة المغطاة بطبقة من الجص التى عليها طبعات أختام الجبانة الملكية. وفى نهاية الدرجات الست عشرة يلاحظ «كارتر» ومساعده «كالندر» وجود اسم الملك «توت- عنخ- آمون»على واحدة من طبعات أختام جدار الغلق. وكان الحدث الأكبر فى يوم 25 نوفمبر 1922، وفى حضور اللورد «كارنرفون»، عندما أحدث «كارتر» ثقبًا فى جدار آخر بعد نهاية دهليز يوصل إلى مدخل المقبرة، لحظتها ساد الصمت والذهول من روعة ما وقعت عليه عيناه. ومن يومها يصير للحضارة المصرية القديمة وتاريخ الفراعنة مكانة خاصة فى كل المحافل الثقافية على مستوى العالم وعند طوائف البشر فى كل مكان.
ومنذ البداية تصدر الحكومة المصرية قرارًا بمنع خروج قطعة واحدة من مجموعة الملك «توت- عنخ- آمون»، وبعدم تطبيق قانون القسمة مع المكتشفين، والذى كان سببًا من قبل فى أن تقتنص البعثة الألمانية التى عملت فى «تل العمارنة»- بطريقة خداعية وبدون أحقية- رأس الملكة الجميلة «نفرتيتي». وتقوم الحكومة المصرية بعد ذلك بتعويض ورثة اللورد «كارنرفون»، الذى قام بتمويل سنوات الحفر فى وادى الملوك، عن كل ما تم إنفاقه بالكامل حتى لا يكون لأحد من فضل أو مكرمة أو مِنَّة على مصر.
عن الأهمية الخاصة لمقبرة الملك الصغير:وبغض النظر عن كل الروائع والتحف الأثرية النادرة والفريدة التى حوتها حجرات المقبرة الصغيرة، حتى أن كل قطعة من هذه المجموعة، صغيرة أو كبيرة، تصبح مصدرًا لانبهار وإعجاب لا ينقطع لكل من يراها، فإن عناصر المقبرة ذاتها بدهليز المدخل والردهة الأمامية المستعرضة وحجرة المخزن الملحقة بها، ثم حجرة التابوت الحجرى وحجرة الكنوز والنفائس المتصلة بها لتمثل بالنسبة لنا فى علم الآثار المصرية القديمة أهمية وقيمة خاصة، نظرًا لسرعة إعدادها وتجهيزها لكى تليق بدفن واحد من فراعنة الأسرة الثامنة عشرة. ويبدو أن الموت المبكر والمفاجئ للملك الصغير (وهو فى بداية العام التاسع عشر من عمره) كان سببًا لكثير من العجلة واقتصار تزيين جدران حجرات المقبرة بالمناظر الدينية على حجرة التابوت وحدها. ونقدر الآن فترة التجهيز للدفن من بعد وقوع الوفاة بحوالى ثلاثة أشهر فقط. كذلك فقد تبين من دراسة دقيقة للزهور التى وضعت مضفورة على شكل أكاليل فوق التوابيت الثلاثة الذهبية للملك وبداخل تابوته الحجرى (حجر الكوارتزيت) أن الأيام التى شهدت مراسم دفن الملك كانت فى الفترة من نهاية شهر فبراير إلى منتصف شهر مارس عام 1323 ق.م.
ولعله من المفيد أن ننوه هنا بأهمية المناظر المرسومة والملونة على الجدران الأربعة لحجرة الدفن (حيث التابوت الحجرى الذى أحيط بأربع مقاصير الواحدة فوق الأخري)، والتى تعبر فى بساطة ووضوح عن دخول الملك المتوفى «توت- عنخ- آمون» إلى عالم الآخرة وحسن قبوله لدى الأرباب كواحد ينتمى إليهم بعد أن صار روحا نورانية.
الحائط الشرقي: عليه منظر فريد لا نجد مثيلا له فى أى من مقابر الملوك الفراعنة فى وادى الملوك، وفيه يظهر الموكب الجنائزى ممثلا فى سحب المومياء الملكية المسجاة على سرير الموت داخل مقصورة سقفها تزينه ثعابين الكوبرا، ومن فوق المقصورة نجد ظُلة لها هى الأخرى سقف تحميه نفس الثعابين المقدسة، والجميع موضوع داخل قارب طقسى عليه تظهر الربتان «إيزيس» و»نفتيس» من حوالى المقصورة حماية ومصاحبة للملك المتوفى الذى صار مساويا لشقيقهما رب الموتى «أوزيريس». وأخيرًا يتم سحب القارب عن طريق زحافة وضع عليها، وذلك من قبل تسعة من رجال البلاط الملكى المقربين للملك ومعهم الوزيران («أوسرمنتو» و»بنتو») وأخيرًا، أمام الزحافة مباشرة، يظهر شخص مهم لابد وأنه القائد الأعلى للجيش المصرى «حور- إم- حب». فوق المومياء نقرأ الكلمات الآتية:»الرب الطيب (= الخير أو المحسن)، سيد الأرضين (الصعيد والدلتا) «نب- خبرو- رع» (اسم العرش الخاص بالملك «توت- عنخ- آمون»، فليعطى الحياة، دواما وإلى الأبد». وفوق مجموعة الرجال الذين يسحبون الملك إلى مستقره الأخير نجد الكلمات الآتية:»كلام يردد(= يرتل) بواسطة المقربين لدى القصر الملكى الذين يقومون بسحب «أوزيريس» (المقصود هنا هو الملك المتوفى الذى صار فى رحاب الآخرة مساويا تمامًا للمعبود «أوزير» رب الموتي)، الملك وسيد الأرضين «نب- خبرو- رع» إلى الغرب (= عالم الموتي). إنهم يرددون فى كلمات : يا «نب- خبرو- رع»، لعلك أن تعود ( إلى دار القرار) فى سلام، يا أيها المعبود، فلتحفظى يا أرض! (هذا قول يكاد أن يتطابق مع ما نردده حتى اليوم عندما نقول: يا أرض إحفظى ما عليك!)» .
الحائط الشمالي: المناظر هنا تبدأ بتصوير خليفة الملك المتوفى (وهو الملك العجوز «آي») الذى يظهر بجلد الفهد فى دور الكاهن الذى يؤدى طقسة «فتح الفم» أمام الهيئة الأوزيرية للملك المتوفي»توت- عنخ- آمون». بعد ذلك نشهد إستقبال الملك بكل الحب والحفاوة والترحاب من قبل الربة «نوت»(ربة السماء)، والتى من بعد لقائها نراه يدلف إلى إستقبال آخر (ومن خلفه هيئة الكا الملكية) من قبل المعبود «أوزيريس» صاحب الصدارة على ساكنى الغرب (= الموتي). هنا نلحظ أن اللقاء يكاد يعنى توحدًا وانصهارًا بين الملك المتوفى وسيد العالم الآخر فى كيان واحد.
الحائط الغربي:المنظر المصور هو عبارة عن تجسيد للساعة الأولى من كتاب «ما فى العالم السفلى (= العالم الآخر)»، حيث نجد فى أربعة صفوف 12 من قردة البابون (ميمون)، كل واحد باسمه، وكذلك قارب رب الشمس وبداخله هيئة الجعران («خبري»)، بما يعنى بداية دخول الملك المتوفى إلى تلك الرحاب النورانية لكى يتجدد مولده مع إشراقة الشمس فى كل صباح.
الحائط الجنوبي:هنا أيضًا يسجل المنظر ، على بساطته، تجدد الحياة للملك المتوفى «توت- عنخ- آمون» الذى يدخل على «حتحور- ربة السماء والتى هى على رأس الصحراء الغربية (=الجبانة)»، والتى تبادره بتقديم علامة الحياة إلى أنفه. ونجده هنا مصاحبا من قبل «أنوبيس- الذى هو على صدارة الغربيين (الموتي)، المعبود الأعلي، القائم على التحنيط، سيد السماء». وكان الملك قد تم الترحيب به، بحسب ما تبقى من النص المكسور خلف «أنوبيس»، من قبل أمه الربة «إيزيس- سيدة السماء»، والتى ضاعت صورتها بسبب كسر هذا الجدار الذى كان يغلق حجرة التابوت.
ونود أخيرًا التنويه بأن المقصورة الأولى والكبري، التى وضعت فوق ثلاث مقاصير أخرى لكى يتم تغطية تابوت الملك «توت- عنخ- آمون» الحجرى بها، كانت مفتوحة المصراعين عندما دخل «كارتر» إلى حجرة الدفن، فى حين أن الثلاث مقاصير الأخرى قد بقيت بغلق وأختام الذين قاموا بمراسم الدفن، الأمر الذى يشير إلى أن فتح باب المقصورة الأولى كان بفعل لصوص المقبرة، الذين لم يقدموا، لسبب ما، على التمادى فى العبث لأكثر من ذلك هنا فقط. هذه الواقعة ربما كانت مرتبطة بما صور وكتب على مصراعى (= درفتي) باب المقصورة. فعلى واحد منهما (على يمين الناظر) نجد فى الوسط صورة حيوان مقطوع الرأس (كتجسيد لعدو قد تم القضاء عليه !)، ومن فوق ذلك دون النص التالى :»إننى «أوزيريس» الذى يخرج من الأفق (القول هنا فيه تلميح إلى أن المتحدث هو الملك المتوفى نفسه الذى صار فى رحاب الآخرة مطابقا للمعبود أوزيريس) لكى أبحث عن عدوى . إنه قد أُعطى إلى ، وهو سوف لا يفلت من قبضتى (من يدي) إلى الأبد، ولسوف أهب ضد عدوى الذى يخر (صريعا) إلى أبد الآبدين». أما المصراع الآخر (على يسار الناظر)، فإنه يُظهر فى الوسط هيئة لمعبود جالس وقد أمسك بعلامة الحياة («عنخ»)، وبالقطع فهو تجسيد لما أشار إليه النص السابق على أساس أنه «أوزيريس الذى يخرج من الأفق». أما ترجمة الكلمات التى سجلت أمام هذه الهيئة فهى كالتالى :» كلام يردد (=يرتل) بواسطة المنقذ (= المنتقم) لأبيه (المقصود هنا هو المعبود «حورس» الذى يعصم والده أوزيريس من كل سوء)، إننى الذى يصد عنك (الشر) بأن قمت بقتل وقطع رأس وساقى أعداء «أوزيريس» والذين خروا (= هلكوا) ولم يعد لهم وجود. (هكذا) فإن كل عدو لأوزيريس الملك «نب- خبرو- رع» (=»توت- عنخ- آمون») سوف يخر (صريعا)».
ونحن لا ندرى اليوم هل كان أحد هؤلاء اللصوص يجيد القراءة وبالتالى قد فهم وفطن إلى المقصود من وراء هذه الكلمات، والتى تعنى أن تنكيلا سوف يحل بكل من يقدم على العبث أوالاقتحام للمثوى الأخير للملك الصغير. أم أنهم، مثل جميع المصريين فى تلك الأزمنة الفرعونية، كانوا يفهمون من مجرد النظر إلى صورة الحيوان ذى الرأس المقطوع المعنى والمغزى الذى تعنيه مثل هذه الهيئة. على كل حال فإنهم قد أحجموا وتوقفوا تمامًا هنا عن مواصلة العبث.